﴿فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ﴾ – تَحَدٍّ لِإِثْبَاتِ تُهْمَةٍ، لَا تَحَدٍّ لِلْإِبْدَاعِ
فِي سُورَةِ هُود، نَقْرَأُ قَوْلَه تعالى:
﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [هود:13]
يَفْهَمُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَحَدٍّ أَدَبِيٌّ لِبَقِيَّةِ الْبَشَرِ:
أَتُوا بِنَصٍّ يُضَاهِي أُسْلُوبَ الْقُرْآنِ وَبَلَاغَتَهُ، وَمِنْ هُنَا يَبْنُونَ حُجَّةَ الإِعْجَازِ الْبَلَاغِيِّ.
وَلَكِنْ، بِالنَّظَرِ الدَّقِيقِ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ، نَجِدُ أَنَّ الْمَقْصُودَ شَيْءٌ آخَرُ تَمَامًا:
الْمُتَّهِمُونَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ افْتَرَى الْقُرْآنَ، أَيْ نَسَبَهُ إِلَى نَفْسِهِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ غَـيْرِهِ مِمَّن سبقه.
فَكَانَ الرَّدُّ عَلَى هَذِهِ التُّهْمَةِ:
“إِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّنِي سَرَقْتُهُ، فَأْتُوا أَنْتُمْ بِمِثْلِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَصْدَرِ الَّذِي تَدَّعُونَ أَنِّي اقْتَبَسْتُ مِنْهُ.”
مثال معاصر:
لو زُعِم اليوم أن كاتبًا معاصرًا ادّعى أنه المؤلف لكتاب شهير سابقٌ من غـَيرِهِ، لكان الرد الطبيعي:
“هاتوا لنا من أين سرقه؟ دلّونا عـلى الكتاب الأصلي أو المصدر الذي استنسخه منه”.
وليس: “اكتبوا أنتم كتابًا بنفس الجودة”، لأن هذا لا يثبت تهمة السرقة من الأساس.
إِذًا، فَالتَّحَدِّي هُنَا لَيْسَ لِإِبْدَاعِ نَصٍّ جَدِيدٍ، بَلْ هُوَ دَعْوَةٌ لِإِثْبَاتِ التُّهْمَةِ وَإِظْهَارِ ذَلِكَ “الْمَصْدَرِ الْمَزْعُومِ” الَّذِي يُفْتَرَضُ أَنَّهُ كَانَ أَصْلَ الْكَلَامِ.
فَهُوَ تَحَدٍّ مَوْجَّهٌ إِلَى الْمُعَاصِرِينَ لَهُ، وَذُو طَابَعٍ تَارِيخِيٍّ وَسِيَاقِيٍّ، لَا يـَصُحُّ سَحْبُهُ عَلَى كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.
وَلَوْ سَحَبْنَا نَفْسَ الْمَنْطِقِ عَلـَى أَعْـمَالٍ أُخْرَى، لَصَارَ كُلُّ عَمَلٍ أَدَبِيٍّ عَالِمِيٍّ أَوْ فَنٍّ فَذٍّ – مِثْلَ أُوبِرَا مُوزَارْت، أَوْ تَصَامِيم دَافِنْشِي، أَوْ مُؤَلَّفَات تُولْسْتُوي وَشِكْسْبِير – نَصًّا إِلَهِيًّا مُنَزَّلًا لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْشِئَ مِثْلَهُ!
وَهَذَا يَكْشِفُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالتَّحَدِّي عَلَى أَلُوهِيَّةِ الْقُرْآنِ، بُنْيَانٌ عَلَى فَهْمٍ مُجْتَزَأٍ وَخَاطِئٍ.
إِنَّ مِمَّا يُؤْسِفُ لَهُ فِي الْوَاقِعِ الْعَرَبِيِّ الْإِسْلَامِيِّ أَنَّ جُلَّ الْمُسْلِمِينَ – وَخُصُوصًا فِي هَذَا الزَّمَانِ – ضِعَافٌ فِي اللُّغَةِ وَفِي مَلَكَةِ الْفَهْمِ السِّيَاقِيِّ وَالدِّقَّةِ اللِّسَانِيَّةِ.
وَبِسَبَبِ هَذَا الضَّعْفِ، يَعْجَزُونَ عَنْ فَهْمِ النُّصُوصِ الدِّينِيَّةِ وَتَفْسِيرِهَا بِنَفْسِهِم، فَيَلْجَأُونَ إِلَى تَفَاسِيرَ جاهزة يتحججون بها عاطفياً دون فَهم. فيَصبَحونَ بذلك فَريسَةً سهلةً للنصّابين.
وَمِنْ هُنَا، تَتَكَرَّسُ خُرَافَاتٌ كَـ “الإِعْجَازِ اللُّغَوِيِّ“ وَ**”التَّحَدِّي الْأَبَدِيِّ”**، وَغَيْرِهَا مِنَ الدَّعَاوَى.
إِنَّ الضَّعْفَ اللُّغَوِيَّ هُوَ مِفْتَاحُ الْخُضُوعِ لِلسُّلْطَةِ الدِّينِيَّةِ، وَهُوَ أَيْضًا حَاجِزٌ نَفْسِيٌّ وَعَـقْلِيٌّ يَحُولُ دُونَ التَّفْكِيرِ النَّقْدِيِّ وَالْفَهْمِ الْمُسْتَقِلِّ.
https://shorturl.fm/bCMWk
https://shorturl.fm/5EbO0
https://shorturl.fm/bG3f8
https://shorturl.fm/szdEL
https://shorturl.fm/ocbaV
https://shorturl.fm/auJyM